الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
.كتاب اللِّعَان: اللعان: مشتق من اللعن، وهو الطرد والإبعاد.فيكون هذا الكتاب سمى (كتاب اللعان) إما مراعاة للفظ، لأن الرجل يلعن نفسه في الخامسة من الشهادات على صدق دعواه. واشتق من دعاء الرجل باللعن لا من دعاء المرأة (بالغضب)لتقدم اللعن على الغضب في الآيات. وإما مراعاة للمعنى-وهو الطرد والإبعاد- لأن الزوجين يفترقان بعد تمامه، فُرْقَةً لا اجتماع بعدها. وتعريفه شرعاً: أنه شهادات مؤكدات بأيْمَانٍ من الزوجين، مقرونة بلعن أو غضب، والأصل فيه، الكتاب والسنة، والإجماع. فأما الكتب فقوله تعالى: {وَالًذِينَ يَرْمُونَ أزْوَاجَهُمْ وَلم يَكُنْ لهم شهداء إلا أنْفُسُهُمْ}الآية. وأما السنة، فمثل حديث الباب. وقد أجمع عليه العلماء في الجملة. حكمته التشريعية: الأصل أنه من قذف محصنا بالزنا صريحا فعليه إقامة البينة، وهي أربعة شهود. وإن لم يأت بهؤلاء الشهود، فعليه حَدُّ القذف، ثمانون جلدة، كما قال تعالى: {والَّذِينَ يَرمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأتوا بأربعة شُهَدَاءَ فَاجْلِدوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَة} استثنى من هذا العموم إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، فعليه إقامة البينة-أربعة شهود- على دعواه. فإن لم يكن لديه أربعة شهود، فَيدْرَأ عنه حدَّ القذف أن يحلف أربع مرات: إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا، وفي الخامسة، يلعن نفسه، إن كان من الكاذبين. وذلك أن الرجل إذا رأى الفاحشة في زوجه، فلا يتمكن من السكوت، كما لو رآه من الأجنبية، لأن هذا عار عليه، وفضيحة له، وانتهاك لحرمته. ولا يقدم على قذف زوجه إلا من تحقق، لأنه لن يقدم على هذا إلا بدافع الغَيرَة الشديدة، إذ أن العار واقع عليهما، فيكون هذا مقويا لصحة دعواه. الحديث الأول: عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنهُمَا: أنَّ فلانَ بنَ فُلانٍ قَال: يا رسول الله، أرأيت لَو وَجَدَ أحدنا امْرَأتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيفَ يَصْنَعُ؟ إن تَكَلَّم، تَكَلَّم بِأمْر عَظِيمٍ، وَإنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْل ذلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذلِكَ أتاه فَقَالَ: «إنَّ الذِي سألتك عَنْهُ قَدِ ابتلِيتُ بِهِ، فَأنزلَ الله-عزَّ وَجَل- هؤُلاءِ الآيات في سورة النُّور. {والذين يَرْمُونَ أزواجهم} فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ، وَذَكَرهَُ، وَأخْبَرَهُ أن عَذَابَ الدنيا أهوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخرة». فقال:َلا-والذي بَعَثَكَ بِالحقً نَبياً- مَا كَذَبتُ عَليْهَا. ثُمً دَعَاهَا، وَوَعَظَهَا، وَأخْبَرَهَا أن عَذَابَ الدنيا أهون من عَذَابِ الآخِرَةِ. فَقَالَتْ: لا، والذِي بعثك بالحق إنه لكاذب: فَبَدَأ بِالرجُل فَشَهِدَ أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين والخامسة: أن لَعنَةَ الله عليه إن كَانَ مِنَ الكَاذِبِينِ. ثم ثَنى بالمَرْأةِ، فَشهِدَتْ أربعَ شهادات بالله، إنهُ لَمِنَ الكاذبين والخَامِسَةِ: أن غَضبً الله عَلَيْهَا إن كان مِنْ الصادِقينَ. ثُم فَرقَ بَينهمَا. ثُم قَالَ: «الله يَعْلَمُ إن أحدَكُمَا كَاذِب، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِب؟» ثلاثاً. وفي لفظ: «لا سَبِيل لك عَلَيهَا» قالَ: يا رسول الله: مالي؟ قالَ: «لا مال لك» إن كنت صدقت عليها فهو بما استحلت من فرجها، وإنْ كُنْتَ كَذَبتَ عَليْهَا فهو أبعد لَكَ منها. المعنى الإجمالي: صاحب هذه القصة كأنه أحسَّ من زوجه ريبةً، وخاف أن يقع منها على فاحشة، فحار في أمره، لأنه إن قذفها ولم يأت ببينة، فعليه الحد، وإن سكت فهي الدياثة والعار، وأبدى هذه الخواطر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجبه كراهة لسؤال قبل أوانه، ولأنه من تعجل الشر والاستفتاح به، بالإضافة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل عليه في ذلك شيء. بعد هذا رأى هذا السائل الفاحشة التي خافها فأنزل الله في حكمه وحكم زوجه، هذه الآيات من سورة النور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أزواجهم}الآيات. فَتلاهن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكَّره ووعظه بأن عذاب الدنيا- وهو حَد القذف- أهون من عذاب الآخرة. فأقسم أنه لم يكذب بِرَمْيهِ زوجه بالزنا. ثم وعظ الزوجة كذلك وأخبرها أن عذاب الدنيا- وهو حدُّ الزنا بالرَّجم- أهون من عذاب الآخرة. فأقسمت أيضا: إنه لمن الكاذبين. حينئذ بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بما بدأ الله به، وهر الزوج، فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين فيما رماها به، وفي الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في دعواه. ثم فرق بينهما فرقة مؤبدة. بما أن أحدهما كاذب، فقد عرض عليهما النبي صلى الله عليه وسلم التوبة. فطلب الزوج صداقه، فقال: ليس لك صداق، فإن كنت صادقا في دعواك زناها، فالصداق بما استحللت من فرجها، فإن الوطء يقرر الصداق. وإن كنت كاذبا عليها، فهو أبعد لك منها، إذ رميتها بهذا البهتان العظيم. ما يؤخذ من الحديث: 1- بيان اللعان وصفته، وهو: أن من قذف زوجه بالزنا ولم يُقِم البينة، فعليه الحد، إلا أن يشهد على نفسه أربع مرات: إنه لمن الصادقين في دعواه.وفي الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. فإن نكلت الزوجة، أقيم عليها حَدُّ الزنا، وإن شهدت بالله أربع مرات: إنه لمن الكاذبين في رَمْيها بهذه الفاحشة، وفي الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، درَأتْ عنها حدَّ الزنا. 2- إذا تم اللعان بينهما. بشروطه فُرِّق بينهما فراق مؤبَّدة. لا تحل له، ولو بعد أزواج. 3- أن يوعظ كل من الزوجين عند إرادة اليمين، لعله يرجع إن كان كاذبا، وكذلك بعد تمام اللعان، تعرض عليهما التوبة، ليتوب فيما بينه وبين الله تعالى. 4- خالف هذا الباب غيره من أبواب الفقه بمسائل. منها: أنه لابد أن يقرن مع اليمين لفظ الشهادة، وفي الخامسة الدعاء على نفسه باللعنة من الزوج، ومن الزوجة، الدعاء على نفسها في الخامسة بالغضب. ومنها: تكرير الأيمان. ومنها: أن الأصل أن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر، هنا طلبت الإيمان من المدعى والمنكر. 5- البداءة بالرجل في التحليف، كما هو ترتيب الآيات. 6- أن الزوج لا يرجع بشيء من صداقه بعد الدخول ولو كانت الفرقة من لعان. 7- اللعان خاص بين الزوجين، أما غيرهما فيجرى فيه حكم القذف المعروف. 8- كراهة المسائل التي لم تقع والبحث عنها، لاسيما ما فيه أمارة الفاحشة. 9- قال العلماء: واختصت المرأة بلفظ (الغضب) لعظم الذنب بالنسبة إليها، على تقدير وقوعه، لما فيه من تلويث الفراش، والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به، وذلك أمر عظيم يترتب عليه مفاسد كثيرة، كانتشار المحرمية، وثبوت الولاية على الإناث واستحقاق الأموال بالتوارث، فلا جرم أن خصت بلفظ الغضب الذي هو أشد من اللعنة. 10- قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على إجراء الأحكام على الظاهر. الحديث الثاني: عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَر َرَضي الله عَنْهُمَا: أن رجلا رَمَى امرَأتَهُ وَانتفى مِنْ وَلدِهَا في زَمَانِ رسول اللْه صلى الله عليه وسلم. فَأمَرَهُمَا رَسُول صلى الله عليه وسلم، فَتَلاعَنَا، كَما قالَ الله تعالى. ثم قَضَى بِالوَلَدِ للمرأة، وَفرَّقَ بين المتلاعنين. المعنى الإجمالي: في هذا الحديث يروى عبد الله بن عمر رَضيَ الله عنهما: أن رجلا قذف زوجته بالزنا، وانتفى من ولدها، وبرئ منه فكذبته في دعواه ولم تُقِرَّ على نفسها. فتلاعنا، بأن شهد الزوج بالله تعالى أربع مرات أنه صادق في قذفها، ولعن نفسه في الخامسة. ثم شهدت الزوجة بالله أربع مرات أنه كاذب، ودعت على نفسها بالغضب في الخامسة. فلما تمَّ اللعان بينهما، فرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم فرقة دائمة، وجعل الولد تابعا للمرأة، منتسبا إليها، منقطعا عن الرجل، غير منسوب إليه. ما يؤخذ من الحديث: 1- ثبوت حكم اللعان حينما يرمي الرَّجل زوجه بالزنا وتكذبه. 2- إذا تم اللعان، انتفى الولد الملاعن على نفسه من أبيه، وصار منسوبا إلى أمه فقط. 3- الفرقة المؤبدة الدائمة بين المتلاعنين، فلا تحل له بعد تمام اللعان بحال من الأحوال. 4- إذا تحقق الزوج أن الولد من غيره، فيجب عليه نفيه، واللعان عليه، إن كذبته. لئلا يلحقه نسبه، فيفضي إلى أمور منكرة، حيث يستحل من الإرث ولحوق النسب، والاختلاط بالمحارم، وغير ذلك، وهو أجنبي عنهم. 5- الأحسن في رعاية النساء التوسط، فلا يكثر الرجل من الوساوس التي لم تبن على قرائن، ولا يحجبها عما هو متعارف ومألوف بين الناس المحافظين ما دام لم ير ريبة، ولا يتركها مهملة، تذهب حين شاءت، وتكلم من شاءت، فهذا هو التفريط. ومع الريبة دياثة. الحديث الثالث: عَنْ أبي هريرة رَضي الله عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُل مِنْ بَني فزارة إلَى النَبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غلاما أسود. فَقَالَ الَّنبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ إبِل»؟ قال: نَعَمْ. قالَ: «فَمَا ألوانها»؟ قالَ: حُمْر. قَالَ: «فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أوْرَقَ»؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا لوُرْقاً. قَالَ: «فَأنىَّ أتَاهَا ذلِكَ»؟ قالَ: عَسَى أنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عرق. قَالَ: «وَهذَا عَسَى أنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْق». الغريب: رجل من بنى فَزَارة: بفتح الفاء والزاي، من غطَفان (قبيلة عدنانية) والرجل اسمه ضمضم بن قتادة. أنَّي أتاه: بفتح الهمزة وتشديد النون، أي مما أتاه هذا اللون المخالف للون أبويه. أورق: بفتح القاف لأنه لا ينصرف، وهو الأسود الذي لم يخلص سواده وإنما فيه غبرة. وجمعه وُرْق، كأحمر وحُمْر. نزعه عرق: العرق، بكسر العين وسكون الراء، هو الأصل. والنزع هو الجذب. والمعنى-هنا- لعله جذبه أصل من النسب، فأشبه المجذوب الجاذب في لونه وخلقه. المعنى الإجمالي: ولد لرجل من قبيلة فزارة غلام خالف لونه لون أبيه وأمه، فصار في نفس أبيه شك منه. فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معرضا بقذف زوجه وأخبره بأنه ولد له غلام أسود. ففهم النبي صلى الله عليه وسلم مراده من تعريفه، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقنعه ويزيل وساوسه، فضرب له مثلا مما يعرف ويألف. فقال: هل لك إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل يكون فيها من أورق مخالف لألوانها؟ قال: إن فيها لورقا. فقال: فمن أين أتاها ذلك اللون المخالف لألوانها؟. قال الرجل: عسى أن يكون جذبه عرق وأصل من آبائه وأجداده. فقال: فابنك كذلك، عسى أن يكون في آبائك وأجدادك من هو أسود، فجذبه في لونه. فقنع الرجل بهذا القياس المستقيم، وزال ما في نفسه من خواطر. ما يؤخذ من الحديث: 1- أن التعريض بالقذف ليس قذفا، فلا يوجب الحد، وبه قال الجمهور: كما أنه لا يعد غيبة إذا جاء مستفتيا، ولم يقصد مجرد العيب والقدح. 2- أن الولد يلحق بأبويه، ولو خالف لونه لونهما قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المخالفة في اللون بين الأب والابن بالبياض والسواد لا تبيح الانتفاء. 3- الاحتياط للأنساب، وأن مجرد الاحتمال والظن، لا ينفي الولد من أبيه، فإن الولد للفراش. والشارع حريص على إلحاق الأنساب ووصلها. 4- فيه ضرب الأمثال، وتشبيه المجهول بالمعلوم، ليكون أقرب إلى الفهم وهذا الحديث، من أدلة القياس في الشرع. قال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن العربي: فيه دليل على صحة الاعتبار بالنظير. 5- فيه حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يخاطب الناس بما يعرفون ويفهمون. فهذا أعرابي يعرف الإبل وضرابها وأنسابها. أزال عنه هذه الخواطر بهذا المثل، الذي يدركه فهمه وعقله، فراح قانعا مطمئنا. فهذا من الحكمة التي قال الله فيها {ادع إلى سَبيلِ ربِّكَ بِالحِكمَةِ} فكلٌّ يخَاطبُ على قدر فهمه وعلمه. .باب لحَاق النَّسب: الحديث الأول:عَنْ عَائِشَةَ رَضي الله عَنْهَا قَالت: اخْتَصَمَ سَعْدُ بنُ أبي وَقاص وَعبدُ بنُ زَمْعَةَ في غلام. فَقَالَ سَعْد: يا رسول الله، هذَا ابنُ أخي عُتْبَة بن أبي وقاص، عَهِدَ إلَيَّ أنهُ ابنه، انظُرْ إلَى شَبَهِهِ. وقال عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ: هذَا أخِي يَا رسول الله، وُلِدَ عَلى فِرَاش أبي مِن وَلِيدَتِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرَأى شبها بيِّناً بِعُتْبَةَ. فَقَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبدُ بنُ زَمعَةَ، الوَلدُ لِلفَرَاش، وَللعاهر الحجر واحتجبي مِنْه يَاسودة» فَلَمْ يَرَ سودة قَطُّ. الغريب: عهد إلي أنه ابنه: يعنى أوصى إلي أنه ابنه، ألحقه بنسبه وأبيه. فراش أبي: يراد بالفراش صاحبه، وهو الزوج والسيد. الوليدة: الجارية التي وطئها سيدها، فجاءت منه بولد. للعاهر الحجر: العاهر: الزاني، ومعنى له الحجر: أي له الخيبة، ولا حق له في الولد. زمعة: بفتح الزاى وسكون الميم، سمى بإحدى الزمعات، وهن الشعرات المتعلقات بأنف الأرنب. المعنى الإجمالي: كانوا في الجاهلية يضربون على الإماء ضرائب يكتسبنها من فجورهن، ويلحقون الولد بالزاني إذا ادعاه. فزنا عتبة بن أبي وقاص بأمة لزمعة بن الأسود، فجاءت بغلام، فأوصى (عتبة) إلى أخيه (سعد) بأن يلحق هذا الغلام بنسبه. فلمَّا جاء فتح مكة، ورأى سعد الغلام، عرفه بشبهه بأخيه، فأراد استلحاقه. فاختصم عليه هو، وعبد بن زمعة، فأدلى سعد بحجته وهي: أن أخاه أقر بأنه ابنه، وبما بينهما من شبَه. فقال عبد بن زمعة: هو أخي، ولد من وليدة أبي. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلام، فرأى فيه شبها بيناً بعتبة. لأن الأصل أنَّه تابع لمالك الأمة، فقد قضى به لزمعه وقال الولد للفراش، وللعاهر الزاني الخيبة والخسار، فهو بعيد عن الولد. ولكن لما رأى شبه الغلام بعتبة، تورع صلى الله عليه وسلم أن يستبيح النظر إلى أخته سودة بنت زمعة بهذا النسب، فأمرها بالاحتجاب منه، احتياطا وتورُعاً. ما يؤخذ من الحديث: 1- أن الولد للفراش، بشرط إمكان الإلحاق بصاحب الفراش. قال ابن دقيق العيد: والحديث أصل في إلحاق الولد بصاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم. 2- أن الزوجة تكون فراشاً بمجرد عقد النكاح، وأن الأمة فراش، لكن لا تعتبر إلا بوطء السيد، فلا يكفى مجرد الملك. والفرق بينهما، أن عقد النكاح مقصود للوطء، وأما تملك الأمة، فلمقاصد كثيرة. أما شيخ الإسلام ابن تيميه فقال: أشار أحمد أنه لا تكون الزوجة فراشا إلا مع العقد والدخول المحقق، لا الإمكان المشكوك فيه. قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح المجزوم به، وإلا فكيف تصير المرأة فراشا، ولم يدخل بها الزوج، ولم يبن بها. 3- أن الاستلحاق لا يختص بالأب، بل يجوز من الأخ وغيره من الأقارب. 4- أن حكم الشبه إنما يعتمد عليه، إذا لم يكن هناك ما هو أقوى منه كالفراش. 5- قال العلماء، من المالكية، والشافعية، والحنابلة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجته سودة بالاحتجاب من الغلام على سبيل الاحتياط والورع لما رأى الشبه قويا بينه وبين عتبة بن أبي وقاص. 6- أن حكم الوطء المحرم كالحلال في حرمة المصاهرة. ووجهه أن سودة أمرت بالاحتجاب. فدل على أن وطء عتبة بالزنا، له حكم. الوطء بالنكاح. وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. وخالفهم المالكية والشافعية، فعندهم لا أثر لوطء الزنا، لعدم احترامه. 7- أن حكم الحاكم لا يغير الأمر في الباطن. فإذا علم المحكوم له أنه مبطل، فهو حرام في حقه، ولا يبيحه له حكم الحاكم. قال شيخ الإسلام ومن وطئ امرأة بما يعتقده نكاحا فإنه يلحق به النسب ويثبت فيه حرمة المصاهرة باتفاق العلماء، فيما أعلم، وإن كان ذلك النكاح باطلا عند الله وعند رسوله وكذلك كل وطء اعتقد أنه ليس حراما وهو حرام. الحديث الثاني: عَنْ عَائِشَةَ رَضي الله عَنْهَا: أنَّها قَالَتْ: إنَّ رَسولَ اللَه صلى الله عليه وسلم دَخَل عَلَيَّ مَسْروراً تَبْرُق أسارير وَْجهِهِ، فَقَالَ: «ألم ترَيْ أن مُجَزَّزاً نظَرَ آنِفا إلَى زَيْدِ بن حَارِثَةَ وأسامة بْن زَيْدٍ، فَقَالَ: إنَ بَعْضَ هذِهِ الأقدَام لَمِنْ بَعْض». وفي لفظ: «كَانَ مجَزِّرٌ، قَائِفاً». الغريب: تبْرُق: بضم الراء، تلمع وتضئ. أسارير وجهه: الأسارير، جمع أسرار، والأسرار جمع سَرَر أو سٌرر، وهو الحط في باطن الكف. وأريد بها هنا، الخطوط التي في الجبهة. مجززا: بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاى الأولى على صيغة اسم الفاعل وهو من بني مد لج قبيلة عرفت بالقيافة والحكم لا يختص بها وحدها. آنفا: أي في الزمن القريب من القول. قائفا: القائف هو من يعرف إلحاق الأنساب بالشبه، ويعرف الآثار، وجمعه قافة. المعنى الإجمالي: كان زيد بن حارثة أبيض اللون، وابنه أسامة أسمر، وكان الناس-من أجل اختلاف لونيهما- يرتابون فيهما، ويتكلمون ني صحة نسبة أسامة إلى أبيه، بما يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمرَّ عليهما (مجزِّز المدلجي) القائف، وهما قد غَطَّيَا رَأسيْهما في قطيفة، وبدت أرجلهما. فقال إن بعض هذه الأقدام لَمنْ بعض، لما رأى بينهن من الشبه. وكان كلام هذا القائف على سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فسُرَّ بذلك سرورا كثيرا، حتى دخل على عائشة وأسارير وجهه تَبْرق، فرحا واستبشارا للاطمئنان إلى صحة نسبة أسامة إلى أبيه، ولِدحْض كلام الذين يطلقون ألسنتهم في أعراض الناس بغير علم. ما يؤخذ من الحديث: 1- العمل بقول القافة في إلحاق النسب، مع عدم ما هو أقوى منها، كالفراش، وهو قول الأئمة الثلاثة، استدلالا بسرور النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، ولا يسر إلا بحق. وخالفهم أبو حنيفة، فلم يعمل بها، واعتذر عن الحديث بأنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه. 2- يكفي قائف واحد، ولكن اشترط العلماء فيه أن يكون عَدْلا مجرباً في الإصابة وهذا حق. فإنَّه. لا يقبل الخبر، ولا ينفذ الحكم، إلا ممن اتصف بهذين الوصفين. 3- تشوف الشارع الحكيم إلى صحة الأنساب، وإلحاقها بأصولها. 4- الفرح والتبشير بالأخبار السارة، وإشاعتها. خصوصا ما فيه إزالة ريبة أو قالَة سوء. 5- لا تختص بالقيافة قبيلة بعينها، وإنما يعمل بخبر من اجتمعت فيه شروط الإصابة من القافة. 6- ظن الفقهاء أن القائف يمكن أن يلحق الولد بأكثر من أب، وأثبت الطب الحديث أن الحيوان المنوي الذي يحصل منه الإلقاح لا يكون من ماءَين لرجلين. الحديث الثالث: عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْري رضي الله عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ العَزلُ لرسول اللَه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «و لِمَ يَفعَلُ ذلِكَ أحدكم»؟-وَلَمَ يقل: فَلا يَفعَلْ ذلكَ أحدكم- فَإنَّهُ: «لَيسَتْ نَفسٌ مَخْلُوقَة إلاَّ الله خالُقها». الغريب: العزل: نزع الذكر من الفرج إذا قارب الإنزال، ليزل خارجه. لم يفعل ذلك أحدكم؟: استفهام بمعنى الإنكار. المعنى الإجمالي: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يفعله بعض الرجال في نسائهم وإمائهم. فاستفهم منهم النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الباعث على ذلك بصيغة الإنكار. ثم أخبرهم صلى الله عليه وسلم عن قصدهم من هذا العمل بالجواب المقنع المانع عن فعلهم. وذلك بأن الله تعالى قد قدر المقادير، فليس عملكم هذا براد لنسمة قد كتب الله خلقها وقدر وجودها، لأنه مقدر الأسباب والمسببات. فإذا أراد خلق النطفة من ماء الرجل، سرى من حيث لا يشعر، إلى قراره المكين. ما يستفاد من الحديث: 1- يأتي حكم العزل والخلاف فيه قريبا، إن شاء الله تعالى. 2- إنكار العزل بقصد التحرز عن خلق الولد، لأن فيه اعتمادا على الأسباب وحدها. 3- أنه ما من نفس مخلوقة إلا وقد قدر الله وجودها، ففيه الإيمان بالقَدَر، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وليس فيه تعطيل للأسباب، فإنه قدر الأشياء وقدر لها أسبابها، فلابد من عمل الأسباب، والله يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد. فتعطيل الأسباب، وعدم الإيمان بتأثيرها، أو الاعتماد عليها وحدها، كلاهما مذهب مذموم. والمذهب الحق المختار الوسط، هو الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن للأسباب تأثيرا وهو مذهب أهل السنة، وبه تجتمع الأدلة العقلية والنقلية. ولله الحمد. الحديث الرابع: عَن جَابِر رضي اللّه عَنْهُ قالَ: كُنَّا نَعْزِلُ وَالقُرآن يَنْزِلُ. لَوْ كَانَ شيئا يُنهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ القُرَانُ. المعنى الإجمالي: يخبر (جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما: أنهم كانوا يعزلون من نسائهم وإمائهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرهم على ذلك، ولو لم يكن مباحا ما أقرهم عليه. فكأنه قيل له: لعله لم يبلغه صنيعكم؟ فقال: إذا كان لم يبلغه فإن الله- تبارك وتعالى- يعلمه، والقرآن ينزله. ولو كان مما ينهى عنه، لنَهى عنه القرَان، ولما أقرنا عليه المشرع. ما يستفاد من الحديث: 1- أن الصحابة كانوا يعزلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واللّه سبحانه مطلع على عملهم، فأقرهم عليه، وكأن الراوي-سواء أكان جابراَ أم سفيان- أراد بهذا أن العزل موجود في زمن التشريع ولما لم ينزل به شيء استدل أنه جائز أقر الشارع عليه عباده، وبهذا يندفع استغراب ابن دقيق العيد. وقد جاء في صحيح (مسلم) أنه بلغه ذلك حيث قال جابر: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينهنا. 2- أن العزل مباح، حيث علمه صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليه، فإنه لا يقر على باطل، وشرعه قوله، وتقريره. وسيأتي الخلاف فيه. 3- قال الصنعاني: قوله: (لو كان شيئا) هذا من أفراد مسلم، وليس هو من قول جابر، وإنما هو من قول سفيان بن عيينة راوي الحديث عن عطاء عن جابر، ولفظ مسلم (لو كان شيء ينهى عنه لنهينا عنه). تفرد به سفيان استنباطا أدرجه في الحديث، ولفظ مؤلف العمدة يقتضي أنه من الحديث، وليس كذلك. 4- استغرب ابن دقيق العيد هذا التقرير المنسوب إلى جابر، وهو تقرير اللّه، وحاول الصنعاني في أن يزيل هذا الاستغراب، ولكنه يزول تماما إذا علمنا أنه ليس من قول جابر. اختلاف العلماء: اختلف العلماء في حكم العزل. فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، وأحمد إلى جوازه في الزوجة الحرة بإذنها وفي الزوجة الأمة بإذن سيدها، وفي الأمة بغير إذن أحد. واستدلوا على جوازه بهذين الحديثين المتقدمين وغيرهما من الأحاديث الصحيحة الصريحة. واستدلوا على تقييده بإذن الحرة، بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها». قال أبو داود: سمعت الإمام أحمد ذكر هذا الحديث، فما أنكره. وذهب الشافعي إلى جواز العزل مطلقا، في الحرة والأمة. ورويت الرخصة عن عشرة من الصحابة. وذهب إلى تحريمه مطلقا (ابن حزم) وطائفة. مستدلين بما رواه مسلم عن جُذَامة بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، فسألوه عن العزل فقال: «ذلك الوأد الخفي» وجعلوا هذا الحديث ناسخاً لأحاديث الإباحة، التي هي على وفق البراءة الأصلية، وهذا الحديث ناقل عن البراءة الأصلية- هذا جوابهم. والأحسن، الجمع بين النصوص بلا نسخ، فيكون الأصل الإباحة. وهذا الحديث يحمل على ما إذا أراد بالعزل التحرز عن الولد، ويدل له قوله: «ذلك الوأد الخفي». الحديث الخامس: عَنْ أبي ذرٍّ رَضيَ الله عَنْهُ: أنه سَمِعَ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيسَ مِنْ رجل ادعَى لِغَيرِ أبِيهِ-وهو يعلمه- إلا كَفَرَ، وَمن ادعى مَا لَيس لَهُ فَلَيْس مِنَّا، وليتبوأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَمَنْ دَعَا رُجُلا بِالكُفْرِ، أو قال: يَا عَدو الله، وَليسَ كَذلِكَ، إلا حَارَ عَليه». كذا عند (مسلم) وللبخاري، نحوه. الغريب: وليتبوأ: أي فليتخذ له مباءة، وهي المنزل. إلا حار عليه: بالحاء المهملة، أي رجع عليه، ومنه قوله تعالى {إنه ظن أن لن يحور} أي يرجع. المعنى الإجمالي: في هذا الحديث وعيد شديد وإنذار أكيد، لمن ارتكب عملا من هذه الثلاثة، فما بالك بمن عملها كلها؟. أولها: أن يكون عالما أباه، مثبتا نسبه فينكره ويتجاهله، مدعيا النسب إلى غير أبيه، أو إلى غير قبيلته. وثانيها: أن يدعي وهو عالم ما ليس له من نسب، أو مال، أو حق من الحقوق، أو عمل من الأعمال، أو يزعم صفة فيه يستغلها ويصرف بها وجوه الناس إليه. يدَّعي علما من شَرْعٍ، أو طب، أو غيرهما، ليكسب من وراء دعواه، فيكون ضرره عظيما، وشره خطيرا. أو يخاصم في أموال الناس عند الحكام، وهو كاذب فهذا عذابه عظيم، إذ تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم: وأمره أن يختار له مقرا في النار لأنه من أهلها، فكيف إذا أيد دعاويه الباطلة بالأيمان الكاذبة. ثالثها: أن يرمِىَ بريئا بالكفر، أو اليهودية، أو النصرانية، أو بأنه من أعداء الله. فمثل هذا يرجع عليه ما قال لأنه أحق بهذه الصفات القبيحة من المسلم الغافل، عن أعمال السوء وأقواله. ما يستفاد من الحديث: 1- فيه دليل على تحريم الانتفاء من نسبه المعروف، والانتساب إلى غيره. سواء أكان ذلك من أبيه القريب، أم من أجداده، ليخرج من قبيلته إلى قبيلة أخرى. لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة، من ضياع الأنساب، واختلاط المحارم بغيرهم، وتقطع الأرحام، وغير ذلك. 2- اشترط العلم، لأن تباعد القرون، وتسلسل الأجداد، قد يوقع في الخلل والجهل، والله لا يكلف نفساً إلا وُسْعَهَا، ولا يؤاخذ بالنسيان والخطأ. 3- قوله: «ومن ادَّعى ما ليس له» يدخل فيه كل دعوى باطلة، من نسب، أو مال، أو علم، أو صنعة، أو غير ذلك. فكل شيء يدَّعيه، وهو كاذب، فالنبي صلى الله عليه وسلم برئ منه، وهو من أهل النار، فليختر مقامه فيها. كيف إذا أيد دعاويه الباطلة بالأيمان الكاذبة، ليأكل بها أموال الناس؟! فهذا ضرره عظيم وأمره كبير. 4- الوعيد الثالث فيمن أطلق الكفر، أو الفسق، أو نفى الإيمان، أو غير ذلك على غير مستحق، فهو أحق منه به، لأن هذا راجع عليه، فالجزاء من جنس العمل. 5- فيؤخذ منه التنبه على تحريم تكفير الناس بغير مسوغ شرعي، وكفر بواح ظاهر. فإن التكفير والإخراج من الملة، أمر خطير، لا يقدم عليه إلا عن بصيرة، وتثبت، وعلم. اختلاف العلماء: أجمع علماء السنة: على أن المسلم، لا يكفر بالمعاصي كفرا يخرجه من الملة. والشارع قد يطلق على فاعل المعاصي الكفر، كما في الحديث الذي معنا. فاختلف العلماء في ذلك. فالجمهور يَرَوْن: أن هذه أحاديث جاءت لقصد الزجر والردع، فتبقى على تخويفها وتهويلها، فلا تؤول. ومن العلماء من أولها فقال: يراد (بالكفر) كفر النعمة، أو بمعنى أنه قارب الكفر، أو أن هذا الوعيد لمن يستحل ذلك، فيكون رادا لنصوص الشريعة الصحيحة الصريحة، فيكفر. ومثل قوله: «ليس منا» يعنى ليس على طريقنا التامة المستقيمة، وإنما نقص إيمانه ودينه. والأحسن، مسلك الجمهور، وهو أن تبقى على إبهامها، ليبقى المعنى المقصود منها، فتكون زاجرة رادعة عن محارم الله تعالى. فإن النفوس مجبولة على اتباع الهوى، فعسى أن يكون لها رادع من مثل هذه النصوص الشريفة. والله أعلم. |